مقهى التجلي ( 17 ) / توبة مثقف !

” الساخر كوم ”

،،،

فقدت صوتي قبل عدة أسابيع ، لم أكن خلالها أستطيع الكلام إلا بصعوبة بالغة ، كان الكلام ” فعلاً ” شاقاً وعسيراً ، وهذا أمر أصعب ما يكون على ثرثار مثلي يمتهن الكلام .
أنا أتكلم كثيراً فيما يعنيني وفيما لا يعنيني ..
في أحيان قليلة أفكّر في الكلام الذي أسرفت فيه طيلة يومي فأجد ما يخصني منه لا يكاد ” يُقال ” ..
لا أتمنى أن يعود صوتي بقدر ما أتمنى أني لم أكن ثرثاراً ، أتمنى أني لم أكن كذلك لكي يسهل عليّ التعايش مع وضعي الجديد ..
في اليومين الأخيرين بدأت أتكلم بطريقة أسهل ولكن الرغبة في الكلام باتت أقل .. !

في هذه الفترة شاهدت فلم ” قناع الغواص والفراشة ” أو بالفرنسية : Le Scaphandre et le Papillon وهذه مناسبة سعيدة أن أكتب جملة بالفرنسية في موضوع ..
مع أني لا أعلم هل الجملة هي أسم الفلم فعلاً أم أنها شتيمة قاسية ، لكني وجدتها هكذا في ويكيبيديا وعليهم وزرها ووزر خداعي إن كانت لا تعني اسم الفلم !
أثّر فيّ هذا الفلم بطريقة لم تفعلها كل الخطب والمحاضرات وأشرطة التسجيلات الإسلامية سواء تلك التي أشتريتها أوتلك التي وضعها على زجاج سيارتي أناس كانوا يريدون أن يعيدوني إلى السراط المستقيم لأني ” ضال مضل ” وصاحب منهج فاسد كما قال أحدهم لأمي يوماً ما ..
وبالمناسبة فأمي ـ ولحسن حظي ـ لم تدرك تماماً ماذا تعني ضال مضل ولم تسمع من قبل بكلمة منهج ، وأعتقد أنها لم تتعامل معي كابن ضال لأنها اعتقدت أن للموضوع علاقة بزينة السيارات وتظليل الزجاج ، أو شيء من هذا القبيل !
قصة هذا الفلم تتحدث عن حياة الصحفي الفرنسي جان دومينيك بوبي ، الذي تعرض لسكتة قلبية وجلطة دماغية أدت إلى أصابتة بحالة تعرف بأسم Locked-In syndrome (متلازمة المنحبس) ، وأنا بالمناسبة مرة أخرى لا أعرف هذا المرض ولا هذه المتلازمة ولكن أنقل لكم اسم المرض على ذمة ويكيبيديا ..
كانت وسيلته للتواصل مع العالم هي أن يرمش بعينه اليسرى فقط ، فكان يجيب على السؤال إن كانت إجابته نعم برمشة واحدة ، وإن كانت إجابته لا برمشتين ، قبل أن تتوصل ممرضته إلى طريقة للتواصل وهي أن تقرأ عليه الأحرف الهجائية مبتدئة بالأكثر استخداما وحين تمر على الحرف الذي يريده فإنه يرمش بعينه ، وهكذا حتى يكوّن كلمة كاملة ، وبعد خمس سنوات استطاع بهذه الطريقة ينهي كتاباً عن مذكراته يحمل نفس اسم الفلم .
من أجمل ما في الفلم طريقة إخراجه فالمشاهد كان ينظر إلى العالم من خلال عين بطل الفلم فما يراه المشاهد هو نفس مايراه بطل الفلم بعينه الوحيده ، كانت طريقة إيصال بعض الأفكار غاية في الدقة والاتقان ، مثل فكرة أن إبعاد ذبابة تحط على أنفه أصبحت ترفاً وحلماً يستحيل تحققه ..
لم أفكر من قبل في مثل هذه النعم البسيطة ، لا أحد يفكر في مثل هذا الأمور إلا حين يفتقدها ، حتى الرغبة في أن تشتم أحدهم ، في أن تقول لآخر أنك تحبه ، في أن تطلب من أحدهم أن يصمت ، في أن تبدو حزيناً أو تظهر عليك علامات السعادة ، الرغبة في الصمت كشيء تختاره وليس وضعاً إجبارياً ، الرغبة في أن تصرخ بصوت عال ، أن تبكي وأن تضحك أو تبتسم أو تنظر لأحدهم بازدراء ..
هذه الأشياء هي في الواقع نعم عظيمة وكبيرة ، ولكننا لا نفكر فيها كثيراً لأن مفهوم النعمة في الغالب يرتبط بالأشياء الكبيرة والواضحة ، كالسمع والبصر والقدرة على السير والصحة بشكل عام ..
لا أعلم في الحقيقة ماهو الرابط بين قصة هذا الفلم وبين عدم قدرتي على الكلام ، وربما كان كل ما في الأمر أني أريد أخباركم أني أشاهد أفلاماً فرنسية !
والموضوع كله على كل حال ليس إلا ثرثرة أمارسها هنا بعد أن عجزت عن ممارستها بشكل واقعي لذلك ليس من الضروري أن يكون هناك علاقة لأي شيء بأي شيء ..
فأنا على وشك أن أكفر بالكلام كصنعة ، فلم يعد يهمني أن أبدو بليغاً أكتب كلاماً جميلاً ، وأنا لا أقول أني كنت كذلك ، ولكن ربما كان يهمني أن أبدو كذلك في فترة ما ..
أشياء كثيرة نؤمن بها بطريقة نعتقد معها أننا لن نكفر بها مهما حدث ، فكرة التخلي عن هذه الأشياء غير واردة من الأساس ، لكن في لحظة ما نجد أنه لا شيء يستحق .. وأن أغلب ما كنا نؤمن به ليس إلا هدر للوقت .. !
.
.
صديقي الأقرب كان مسكوناً بهاجس الثقافة والأدب والكتب ، من النادر أن ألتقيه في أي مكان وهو لا يحمل كتاباً ، سيارته مكتبة متنقلة ، أحاديثه في الغالب تدور حول كتاب أو مؤلف ..
قرر فجأة أن يكفر بكل هذا ، جمع ما لديه من مال واشترى سيارة جديدة تتناسب مع المرحلة الجديدة ( جمس وانتيت 79 ) وشماغ أسود ، واستبدل الكتب التي كانت تعج بها سيارته بـ ” عزبة ” ودلال وفناجيل ، إنه ببساطه يريد أن يعمل في التهريب ويعتقد أنه ضيع الكثير من أيامه في كلام فاضي لا علاقة له بـ ” علوم الرجال ” !

وأنا أجدني على وشك التحول وتغيير أشياء كثيرة ، لكني لا زلت حتى هذه اللحظة لا أعلم أي طريق سأسلك ، أجد لدي رغبة شديدة هذه الأيام في الاستماع إلى أغاني ” الطقاقات ” ..!!
والوقت الذي كنت أضيعه فيما سبق في قراءة كتاب أو في الاستماع إلى محاضرة لا يشغله الآن إلا الاستماع لموضي الشمراني وزبيدة وبقية الرفيقات المناضلات ، ولتذهب المكتبات للجحيم !
.
.
صديق آخر حاول أن يقنعني بالعدول عن توجهاتي الجديدة ، وحدثني كثيراً عن الأمة ، وعن أعدائها الذين يتربصون بها وأن وقتي كاملاً يجب أن يكون للدفاع عن الأمة بقلمي ، قلت له أن أمة تنتظر قلمي لينصرها هي أمة غير جديرة بالنصر على كل حال ..!
سألته سؤالاً عبيطاً وافتراضيا ، قلت له : فلنفترض جدلاً أنك أمام خيارين لا ثالث لهما ، إما أن تنتصر الأمة التي تتحدث عنها ويصبح الإسلام أقوى قوة على الأرض ويسترد المسلمون كرامتهم المسلوبة لكنك لسوء حظك تكون خارج هذه المعادلة وتدخل جهنم ، أو أن الأمة تنحدر إلى ماهو اسوأ من وضعها الحالي وتتلاعب بها كل أمم الأرض ولكنك تدخل الجنة ، فأي الخيارين أقرب إلى قلبك لو لم يكن هنالك سوى هذين الخيارين !
لم يجب ، واعتَقَد ـ وهو محق إلى حد ما ـ أني أمارس نوعاً لا يحبه من العبط والاستهبال !
أشاهد عينات كثيرة من الكتّاب ـ وخاصة في المنتديات ـ لاهم لهم فيما يكتبون إلا الأمة والدفاع عنها وعن مقدراتها ومكتسباتها ، لكنهم في ذات الوقت لا يتورعون عن الخوض في أعراض الخلق ، ولا يتورعون عن أن يكيلوا من الشتائم ما تستحي الشياطين من الإتيان بمثله ، وأنا بصفتي أحد المنتسبين لهذه الأمة أتوجه لهم بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن بقية الأمة وأقول لهم أنه لا حاجة لنا ولا لأمتنا بأمثالكم للدفاع عنها ، فالشخص الذي يعجز عن الانتصار على نفسه وكبح جماحها هو أقل بكثير من أن يتكلم عن الأمة التي تسكن حارتهم ، ناهيك عن بقية الأمة في الحارات المجاورة !
إن الخدمة الجليلة التي سيقدمها للأمة ولنفسه هي أن يصمت ، سيكون صمته هو أعظم فعلٍ يقوم به على الإطلاق !
ربما أني آمنت بهذا المبدأ فلم أعد أحب الحديث ولا الكتابة إلا عن نفسي ، لا أحد أجدر بشتائمي مني ، وليذهب كل ما عداي إلى حيث لا يعود !

في الفترة الماضية وأثناء إقامة معرض الرياض للكتاب كان الكثير يسألوني متى سأزور المعرض ، ولم أكن أجيب بشكل قطعي ولكني كنت أبتسم ، لسببين ..
السبب الأول أنه لازال لدي القدرة على الابتسام ، وهذه نعمة عظيمة ، والسبب الثاني هو أني مؤمن تماما أنهم يضيعون أوقاتهم عبثاً ، ولن أستجيب لهم في العودة للضلال القديم حتى ولو على سبيل الزيارة ، سيأتي اليوم الذي يستمعون فيه إلى الرفيقة موضي الشمراني وهي تردد في جموع المثقفين التائيبين : ( عاشوا .. عاشوا .. ورى .. ورى ) .!

،،،

سهيل اليماني

Archived By: Crazy SEO .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة